فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان التقدير: فلو شئنا لجعلنا الناس كلهم من أنثى بلا ذكر، ولو شئنا لساويناكم بهم في ذلك الذي ضربناه عليهم من الذل عندما جعلوا له مثل السوء فزدنا ما أنتم فيه من الذل والحقارة عن سائر الأمم بأن سلطانهم عليكم حتى استباحوكم، ولو شئنا لمحوناكم أجمعين عن وجه الأرض فتركناها بيتًا؟ لا أنيس بها، عطف عليه قوله: {ولو} معبرًا بصيغة المضارع إشارة إلى دوام قدرته على تجديد الإبداع فقال: {نشاء لجعلنا} أي على ما لنا من العظمة ما هو أغرب مما صنعناه في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام {منكم} أي جعلًا مبتدئًا منكم، إما بالتوليد كما جعلنا عيسى عليه الصلاة والسلام من أنثى من غير ذكر وجعلنا آدم عليه الصلاة والسلام من تراب من غير أنثى ولا ذكر وإما بالبدلية {ملائكة في الأرض يخلفون} أي يكونون خلفًا لكم شيئًا بعد شيء بعد إعدامكم فجعلناهم مثلًا لكم كما جعلنا عيسى عليه الصلاة والسلام مثلًا لبني إسرائيل، ويجوز أن يكون المعنى: لجعلنا بعضكم ملائكة بأن نحول خلقتهم فنجعلهم خلفًا لمن تحولوا عنهم ونخلف بعضهم بعضًا، فإنهم من جملة عبادنا أجسام تقبل التوليد كما تقبل الإبداع، وعلى كلا التقديرين فذلك إشارة إلى أن الملائكة ذوات ممكنة من جملة عبيده سبحانه، يصرفهم في مراده إن شاء في السماء، وإن شاء في الأرض، لا شيء منكم إلا وهو بعيد جدًا عن رتبة الإلهية إرشادًا لهم إلى الاعتقاد الحق في أمره سبحانه بشمول قدرته وكمال علمه اللازم منه أنه لا إله إلا هو.
ولما ذكر سبحانه الإعدام والخلافة بسببه فرضًا، ذكر أن إنزاله إلى الأرض آخر الزمان أمارة على إعدام الناس تحقيقًا، فقال مؤكدًا لأجل إنكارهم: {وإنه} أي عيسى عليه الصلاة والسلام {لعلم للساعة} أي نزوله سبب للعلم بقرب الساعة التي هي إعدامه الخلائق كلهم بالموت، وكذا ما نقل عنه من أنه كان يحيى وكذا إبراؤه الأسقام سبب عظيم للقطع بالساعة التي هي القيامة، فهو سبب للعلم بالأمرين: عموم الإعدام وعموم القيام.
ولما كان قريش يستنصحون اليهود يسألونهم- لكونهم أهل الكتاب- عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النصارى مثلهم في ذلك، وكان كون عيسى عليه الصلاة والسلام من أعلام الساعة أمرًا مقطوعًا به عند الفريقين، أما النصارى فيقولون: إنه الذي أتى إليهم ورفع إلى السماء كما هو عندنا، وأما اليهود فيقولون: إنه إلى الآن لم يأت، ويأتي بعد، فثبت بهذا أمر عيسى عليه الصلاة والسلام فيما أخبر الله تعالى عنه من إنعامه عليه، ومن أنه من أعلام الساعة بشهادة الفرق الثلاثة اليهود والنصارى والمسلمين ثباتًا عظيمًا جدًا، فصارت كأنها مشاهدة، فلذلك سبب عما سبق قوله على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام، لافتًا القول إلى مواجهتهم مؤكدًا في مقابلة إنكارهم لها بما ثبت من شهادة الفرق الثلاثة: {فلا تمترن} أي تشكوا أدنى شك وتضطربوا أدنى اضطراب وتجحدوا أدنى جحد وتجادلوا أدنى جدل {بها} أي بسببها، يقال: مرى الشيء وامتراه: استخرجه، ومراه مائة سوط: ضربه، ومراه حقه، أي جحده، والمرية بالضم والكسر: الجدل والشك {واتبعون} أي أوجدوا تبعكم بغاية جهدكم {هذا} أي كل ما أمرتكم به من هذا وغيره {صراط} أي طريق واسع واضح {مستقيم} أي لا عوج فيه.
ولما حثهم على السلوك لصراط الولي الحميد بدلالة الشفوق النصوح الرؤوف الرحيم، حذرهم من العدو البعيد المحترق الطريد، فقال دالًا على عظيم فتنته بما له من التزيين للمشتهى والأخذ من المأمن والتلبيس للمشكل والتغطية للخوف بالتأكيد، لما هم تابعون من ضده على وجه التقليد: {ولا يصدنكم} أي عن هذا الطريق الواضح الواسع المستقيم الموصل إلى المقصود بأيسر سعي {الشيطان} ولما كان كأنه قيل ما له يصدنا عن سبيل ربنا؟ ذكر العلة تحذيرًا في قوله: {إنه لكم} أي عامة، وأكد الخبر لأن أفعال التابعين لكم أفعال من ينكر عداوته: {عدو مبين} أي واضح العداوة في نفسه مناد بها، وذلك بإبلاغه في عداوة أبيكم حتى أنزلكم بإنزاله عن محل الراحة إلى موضع النصب، عداوة ناشئة عن الحسد، فهي لا تنفك أبدًا. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{يا عبادي} بالياء في الحالين: أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو. وقرأ حماد وأبو بكر بفتح الياء. الباقون بغير ياء في الحالين {تشتهيه} بهاء الضمير: ونافع وأبو جعفر وابن عامر وحفص. الآخرون: بحذفها {وإليه يرجعون} بياء الغيبة: ابن كثير وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بتاء الخطاب.
{وقيله} بالكسرة: حمزة وعاصم غير المفضل. الآخرون: بالنصب.
{تعلمون} على الخطاب: أبو جعفر ونافع وابن عامر.

.الوقوف:

{يصدون} o {أم هو} ط {جدلًا} ط {خصمون} o {إسرائيل} o ط {يخلفون} o {واتبعون} ط {مستقيم} o {الشيطان} ج للابتداء بان مع اتصال المعنى {مبين} o {فيه} ج لعطف الجملتين مع الفاء {وأطيعون} o {فاعبدوه} ط {مستقيم} o {من بينهم} ج للابتداء مع الفاء {أليم} o {لا يشعرون} o {المتقين} o {تحزنون} o ج لاحتمال كون ما بعده وصفًا {مسلمين} o ج لاحتمال أن يكون {الذين} إلى آخر الآية مبتدأ وقوله: {ادخلوا} إلى آخره خبرًا، والقول محذوف لا محالة {تحبرون} o {وأكواب} ج {الأعين} ج للعدول مع العطف {خالدون} o {تعملون} o {تأكلون} o {خالدون} o ج لإحتمال ما بعده صفة أو حالًا له لا مستأنفًا {مبلسون} o ج لاحتمال أن يكون ما بعده مستأنفًا أو حالًا {الظالمين} o {ربك} ط {ماكثون} o ج {كارهون} o {مبرمون} o ج لأن (أم) يصلح جواب الأولى ويصلح استفهامًا آخر {ونجواهم} ط {يكتبون} o {العابدين} o {يصفون} o {يوعدون} o {وفي الأرض إله} ط {العليم} o {بينهما} ج {الساعة} ج {ترجعون} o {يعلمون} o {يؤفكون} o ج فالوقف بناء على قراءة النصب، والوصل بناء على قراءة الجر وسيأتي تمام البحث عن إعرابها {لا يؤمنون} o لئلا يوهم أن ما بعده من قيل الرسول {سلام} ط للابتداء بالتهديد. قال السجاوندي: من قرأ {تعلمون} على الخطاب فوقفه لازم لئلا يصير التهديد داخلًا في الأمر بقوله: {قل} قلت: لا محذور فيه لأن السلام سلام توديع لا تعظيم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)} في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أنه تعالى ذكر أنواعًا كثيرة من كفرياتهم في هذه السورة وأجاب عنها بالوجوه الكثيرة فأولها: قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءا} [الزخرف: 15] وثانيها: قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا} [الزخرف: 19] وثالثها: قوله: {وَقالواْ لَوْ شَاء الرحمن مَا عبدناهم} [الزخرف: 20] ورابعها: قوله: {وَقالواْ لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] وخامسها: هذه الآية التي نحن الآن في تفسيرها، ولفظ الآية لا يدل إلا على أنه لما ضرب ابن مريم مثلًا أخذ القوم يضجون ويرفعون أصواتهم، فأما أن ذلك المثل كيف كان، وفي أي شيء كان فاللفظ لا يدل عليه والمفسرون ذكروا فيه وجوهًا كلها محتملة فالأول: أن الكفار لما سمعوا أن النصارى يعبدون عيسى قالوا إذا عبدوا عيسى فآلهتنا خير من عيسى، وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يعبدون الملائكة الثاني: روي أنه لما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] قال عبد الله بن الزبعري هذا خاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «بل لجميع الأمم» فقال خصمتك ورب الكعبة، ألست تزعم أن عيسى ابن مريم نبي وتثني عليه خيرًا وعلى أمه، وقد علمت أن النصارى يعبدونهما واليهود يعبدون عزيرًا والملائكة يعبدون، فإذا كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم (1) فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وفرح القوم وضحكوا وضجوا، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] ونزلت هذه الآية أيضًا والمعنى، ولما ضرب عبد الله بن الزبعري عيسى ابن مريم مثلًا وجادل رسول الله بعبادة النصارى إياه إذا قومك قريش منه أي من هذا المثل يصدون أي يرتفع لهم ضجيج وجلبة فرحًا وجدلًا وضحكًا بسبب ما رأوا من إسكات رسول الله فإنه قد جرت العادة بأن أحد الخصمين إذا انقطع أظهر الخصم الثاني الفرح والضجيج، وقالوا أآلهتنا خير أم هو يعنون أن آلهتنا عندك ليس خيرًا من عيسى فإذا كان عيسى من حصب جهنم كان أمر آلهتنا أهون الوجه الثالث: في التأويل وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح وجعلوه إلهًا لأنفسهم، قال كفار مكة إن محمدًا يريد أن يجعل لنا إلهًا كما جعل النصارى المسيح إلهًا لأنفسهم، ثم عند هذا قالوا {أآلهتنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} يعني أآلهتنا خير أم محمد، وذكروا ذلك لأجل أنهم قالوا: إن محمدًا يدعونا إلى عبادة نفسه، وآباؤنا زعموا أنه يجب عبادة هذه الأصنام، وإذا كان لابد من أحد هذين الأمرين فعبادة هذه الأصنام أولى، لأن آباءنا وأسلافنا كانوا متطابقين عليه، وأما محمد فإنه متهم في أمرنا بعبادته فكان الاشتغال بعبادة الأصنام أولى، ثم إنه تعالى بيّن أنا لم نقل إن الاشتغال بعبادة المسيح طريق حسن بل هو كلام باطل، فإن عيسى ليس إلا عبدًا أنعمنا عليه، فإذا كان الأمر كذلك فقد زالت شبهتهم في قولهم: إن محمدًا يريد أن يأمرنا بعبادة نفسه، فهذه الوجوه الثلاثة مما يحتمل كل واحد منها لفظ الآية.
المسألة الثانية:
قرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم يصدون بضم الصاد وهو قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام والباقون بكسر الصاد وهي قراءة ابن عباس، واختلفوا فقال الكسائي هما بمعنى نحو {يعرشون} و{يعرشون} و{يعكفون}، ومنهم من فرق، أما القراءة بالضم فمن الصدود، أي من أجل هذا المثل يصدون عن الحق ويعرضون عنه، وأما بالكسر فمعناه يضجون.
المسألة الثالثة:
قرأ عاصم وحمزة والكسائي أآلهتنا استفهامًا بهمزتين الثانية مطولة والباقون استفهامًا بهمزة ومدة.
ثم قال تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ} أي ما ضربوا لك هذا المثل إلا لأجل الجدل والغلبة في القول لا لطلب الفرق بين الحق والباطل {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} مبالغون في الخصومة، وذلك لأن قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} لا يتناول الملائكة وعيسى، وبيانه من وجوه الأول: أن كلمة ما لا تتناول العقلاء ألبتة والثاني: أن كلمة ما ليست صريحة في الاستغراق بدليل أنه يصح إدخال لفظتي الكل والبعض عليه، فيقال إنكم وكل ما تعبدون من دون الله، أو إنكم وبعض ما تبعدون من دون الله الثالث: أن قوله إنكم وكل ما تعبدون من دون الله أو وبعض ما تعبدون خطاب مشافهة فلعله ما كان فيهم أحد يعبد المسيح والملائكة الرابع: أن قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} هب أنه عام إلا أن النصوص الدالة على تعظيم الملائكة وعيسى أخص منه، والخاص مقدم على العام.
المسألة الرابعة:
القائلون بذم الجدل تمسكوا بهذه الآية إلا أنا قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: {مَا يجادل في ءايات الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ} [غافر: 4] أن الآيات الكثيرة دالة على أن الجدل موجب للمدح والثناء، وطريق التوفيق أن تصرف تلك الآيات إلى الجدل الذي يفيد تقرير الحق، وأن تصرف هذه الآية إلى الجدل الذي يوجب تقرير الباطل.
ثم قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} يعني ما عيسى إلا عبد كسائر العبيد أنعمنا عليه حيث جعلناه آية بأن خلقناه من غير أب كما خلقنا آدم وشرفناه بالنبوة وصيرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر {وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُمْ} لولدنا منك يا رجال {ملائكة فِي الأرض يخلفون} كما يخلفكم أولادكم كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة ولتعرفوا أن دخول التوليد والتولد في الملائكة أمر ممكن وذات الله متعالىة عن ذلك {وإِنَّهُ} أي عيسى {لَعِلْمٌ لّلسَّاعَةِ} شرط من أشراطها تعلم به فسمي الشرط الدال على الشيء علمًا لحصول العلم به، وقرأ ابن عباس: {لَعِلْمٌ} وهو العلامة وقرئ {للعلم} وقرأ أبي: {لذكر}، وفي الحديث: «أن عيسى ينزل على ثنية في الأرض المقدسة يقال لها أفيق وبيده حربة وبها يقتل الدجال فيأتي ببيت المقدس في صلاة الصبح والإمام يؤم بهم فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن به» {فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا} من المرية وهو الشك {واتبعون} واتبعوا هداي وشرعي {هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ} أي هذا الذي أدعوكم إليه صراط مستقيم {وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} قد بانت عداواته لكم لأجل أنه هو الذي أخرج أباكم من الجنّة ونزع عنه لباس النور. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)}.
روي عن ابن عباس وغيره في تفسير هذه الآية، أنه لما نزلت: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59] ونزل مع ذلك ذكر عيسى وحاله وكيف خلق من غير فحل، قالت فرقة: ما يريد محمد من ذكر عيسى إلا أن نعبده نحن كما عبدت النصارى عيسى، فهذا كان صدورهم من ضربه مثلًا.
وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو جعفر والأعرج والنخعي وأبو رجاء وابن وثاب: {يصُدون} بضم الصاد، بمعنى: يعرضون. وقرأ الباقون وابن عباس وابن جبير والحسن وعكرمة: {يصِدون} بكسر الصاد، بمعنى يضحكون، وأنكر ابن عباس ضم الصاد، ورويت عن علي بن أبي طالب، وقال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، مثل {يعرُشون ويعرِشون}.
وقوله تعالى: {آلهتنا} ابتداء معنى ثان، وذلك أنه لما نزلت {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [الأنبياء: 98] جاء عبد الله بن الزعبري ونظراؤه فقالوا: نحن نخصم محمدًا: آلهتنا خير أم عيسى؟ وعلموا أن الجواب أن يقال عيسى، قالوا، وهذه آية الحصب لنا أو لكل الأمم من الكفار فقال النبي عليه السلام: «بل لكل من تقدم أو تأخر من الكفار،» فقالوا نحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى، إذ هو خير منها، وإذ قد عبد فهو من الحصب إذًا، فقال: {ما ضربوه لك إلا جدلًا} أي ما مثلوا هذا التمثيل إلا جدلًا منهم ومغالطة، ونسوا أن عيسى لم يعبد برضى منه ولا عن إرادة، ولا له في ذلك ذنب.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {اءالهتنا} بهمزة استفهام وهمزة بعدها بين بين وألف بعدها. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: بهمزتين مخففتين بعد الثانية ألف. وقرأ ورش عن نافع: بغير استفهام: {آلهتنا} على مثال الخبر. وقرأ قالون عن نافع: {ءالهتنا} على الاستفهام بهمزة واحدة بعدها مدة. وفي مصحف أبي بن كعب: {خير أم هذا}، فالإشارة إلى محمد، وخرجت هذه القراءة على التأويل الأول الذي فسرناه، وكذلك قالت فرقة ممن قرأ: {أم هو} إن الإرادة محمد عليه السلام، وهو قول قتادة. وقال ابن زيد والسدي المراد بـ: {هو} عيسى، هذا هو المترجح.
والجدال عند العرب: المحاورة بمغالطة أو تحقيق أو ما اتفق من القول إنما المقصد به أن يغلب صاحبه في الظاهر إلا أن يتطلب الحق في نفسه، وروى أبو أمامة عن النبي عليه السلام أنه قال: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أتوا الجدل» ثم قرأ: {ما ضربوه لك إلا جدلًا} قال أبو أمامة: ورأى عليه السلام قومًا يتنازعون، فغضب حتى كأنما صب في وجهه الخل، وقال: «لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فما ضل قوم إلا أوتوا الجدل» ثم أخبر تعالى عنهم أنهم أهل خصام ولدد، وأخبر عن عيسى أنه عبد أنعم الله عليه بالنبوءة والمنزلة العالية، وجعله مثلًا لبني إسرائيل.